- السيرة / ٠3سيرة الصحابة / ٠1الخلفاء الراشدين
- /
- ٠4علي بن أبي طالب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
ما هو النفاق ؟
أيها الأخوة, مع الدرس الثامن من سيرة سيدنا علي بن أبي طالب، وقد وعدناكم أن نقرأ عليكم بعض الشرح من مواعظ هذا الإمام الجليل، وكأنه يضع يده فيها رضي الله عنه على جراح المسلمين في عصور تأخُّرهم .
فقبل أن نقرأ هذه الموعظة لا بد من مقدمةٍ قصيرة، وهي أن الإسلام في أول نشأته ما عرف النفاق، لكن بعد أن جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا واستتب الأمر للمسلمين، وانطلقت الجيوش تفتح مشارق الأرض ومغاربها، وتمكن الإيمان، عندئذٍ ظهر ما يسمى بالنفاق، طبعاً ظهر لأن القوة الكبيرة بيد المسلمين .
والنفاق حالة ليست إيماناً وليست كفـراً، ظاهره شيء، وباطنه شيء، أفكاره في وادٍ، وسلوكه في واد، حاجاته يلبِّيها، وآخرته يرجئها، فهذا الإنسان البذيء نشأ في مجتمعٍ إسلامي، وسلك سلوكاً غير إسلامي، هو الذي يصفه هذا الإمام الجليل: " لا تكن مِمَّن يرجو الآخرة بغير عمل ".
هذا هو سبب ضياع المسلمين :
أقول لكم: قد تجد إنسانًا إذا خطط لمستقبله، أو اختار عمله، أو تحرك حركةً في الدنيا يدخل في حساباته الأشياء الأساسية، مثلاً لو أنه أراد يؤسِّس مشروعًا، يفكر أوّلاً فيما لو أن ثمَّة مشروعًا آخر منافسًا، ثم يفكر لو أن هذه المادة الأولية مُنِع استرادها، ويفكر لو أن القوة الشرائية انخفضتْ، فلم يعُد المواطنُ يتمكن من شراء هذه السلعة، فالإنسان إذا أسس مشروعًا يُدخِل الحساباتِ المتوقعةَ بأكملها .
الشيء العجيـب أن الناسَ حينما يتحرَّكون، فالغافل منهم لا يدخل حساب الآخرة في تخطيطه إطلاقاً، لا الموت، ولا الوقفةٌ بين يدي الله عزَّ وجل، ولا أيّ سؤالٍ حولَ هذا المال، كيف أخذته؟ ولمَ أنفقته بهذه الطريقة؟ هذه المرأة لمَ طلقتها؟ هذه السلعة لمَ بعتها، ولم تذكر عيبها؟ فهذا النموذج الذي يدخل في حساباته كل شيء إلا الآخرة, قال فيه الإمام على كرم الله وجهه: " لا تكن مِمَّن يرجو الآخرة بغير عمل " .
لكن هذا الإنسان بالذات الذي لم يدخل في حساباته موضوع الآخرة إطلاقًا، لو كان في عقد قران مثلاً، لو كان في مجلس علم، لو كان في مناسبة دينية، والخطيب أو الداعي دعا اللهم ارزقنا الجنة، يقول آمين، آمين على ماذا؟ هذا الذي يقول آمين بصوتٍ مرتفع, وليس في سلوكه ما ينبئُ أنَّه يسعى للآخرة، هذا الإنسان، وهذا النموذج، وهذا المسلم هو الذي سبَّب ضياع المسلمين .
فبينما أنْ يكون الإسلام منهجًا كاملاً، ينتظم كل حياتنا، ينتظم بيوتنا، أعمالنا، علاقاتنا، أفراحنا، قبض أموالنا وإنفاقها، وكل نشاطاتنا، وبين أن يكون الإسلام قد تقلص، وتقلص، وتقلص ، وانكمش، فصار صوماً وصلاةً وحجاً وزكاةً، هو في واد والحياة في وادٍ آخر، هذا الذي يعنيه الإمام علي كرم الله وجهه: " لا تكن ممَّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجِّي التوبة بطول الأمل "
احذر مغبة التسويف :
فكل إنسان يقول لك: أنت شاب عندما تكبر وتتزوج وتمل من حياتك تتوب, هذا الذي يرجّي التوبة بطول الأمل، أليس هناك مغادرة للدنيا؟ أليس هناك آلاف الحوادث, فيها شابٌ يموت، إنسان في مقتبل حياته يصاب بمرض عضال؟ أليس هناك من يغادر الدنيا من دون سابق إنذار؟ فاليوم كنا في تشييع جنازة، والله شيء لا يصدق، إنسان يسكن في بيت, يضمُّ السرير والفراش، والغرفُ الدافئة، وغرف الطعام، كل هذا تركه، وحفرتْ له حفرةٌ، ووضع فيها، وأهيلَ الترابُ عليه، هذه حقائق، ليس مِن كلام أشدّ واقعية من هذا الكلام، كلنا مصيرنا إلى هذه الحفرة، ماذا في هذه الحفرة؟ هذا الكلام: " ويرجِّي التوبة بطول الأمل " .
لذلك مَن عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، إذا قلت: غداً سأفعل كذا وكذا, إذا توهمت أن غداً تملكه، هذا التوهم هو عين الجهل .
شخصية لم يعرفها المسلمون من قبل :
قال: " لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجّي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين ", أخطر شيء هذا الانفصام، هذه المسافة، هذه هذه الازدواجية، وكأن هذا الإنسان معه انفصام شخصية، له شخصيتان إذا تكلم تكلم بقول الزاهدين، وإذا عمل عمل بعمل الراغبين، فهذه الشخصية الثنائية في الإنسان، هذه المسافة الكبيرة بين الفكر وبين السلوك، هذه سمة عصور تخلُّف المسلمين .
لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
قال: " يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إنْ أعطي منها لم يشبع، وإن مُنِع منها لم يقنع ", مهما أعطي لا يشبع، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذه الحقيقة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
" مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا " .
فإذا كان هناك نهم فاجعله في طلب العلم، اجعله في طلب الآخرة، إذا كان هناك نهم تسابق مع أهل الإيمان، التنافس مطلوب، الله عزَّ وجل يقول:
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
الإنسان من طبيعته الغيرة، والحقيقة هذه الطبيعة لمصلحته، هذه الطبيعة تدعوه إلى أن يسابق أخوانه، لكنّ المشكلة ما موضوع السباق؟ الله عزَّ وجل ينتظر منا أنْ نتسابق في أمر الآخرة، في معرفته، في طلب العلم، في خدمة الخلق، في العمل الصالح، الآن الناس يتنافسون في الدنيا، في جمع الدرهم والدينار، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
لم يعُد الإنسان يكتفي بألوف مؤلفة، بل يريد ملايين مملينة، لو ترك ملايين مملينة، وقدِم على الله عزَّ وجل صفر اليدين من العمل الصالح، إنه مِن أخسر الناس .
هذا هو النكران الجميل :
قال: " إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي ", الحقيقة أنّ نعمة الشكر مِن أعظم النعم التي يتمتع بها المؤمن، نعمة الشكر أساسها اليقظة، الغفلة تسبب الكفر، فالإنسان أحياناً لو وضع قائمة للنعم التي عنده, فماذا عنده؟ عنده صحة، هذه أثمن شيء، عنده بيتٌ نظيف، وليس عنده أيّة مشكلة في البيت، زوجة مستقيمة مؤمنة، أولاد أبرار، هذه أكبر ثروة، له سمعةٌ طيبة، ثروة جديدة، عنده قوت يومه، كنت أذكر دائماً عن ملِك سأل وزيره: مَن الملك؟ فهذا الوزير أُحرِج، السائل هو الملِك نفسه، ويقول هذا الملِك: مَن الملِك؟ فسكت، فقال له: أجب، فقال له: أنت الملك، فقال هذا الملك: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيتٌ يؤويه, وزوجةٌ ترضيه, ورزقٌ يكفيه، إن عرفناه جهدنا في إحراجه، وإن عرفنا جهد في استرضائنا .
فحينما يتمتع الإنسان بعقيدة سليمة عن الإيمان بالله، وبفكرة صحيحة عن الكون، فقد جمع لنفسه الخير و الفلاح، ماذا قال طرفة بن العبد:
فإن كنتَ لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ينطلق هذا الشاعر الجاهلي من فلسفة أساسها أن الدنيا من أجل المتعة، وأقوال الناس الآن، يقولون بهذا القول: أنت الآن في عز شبابك فتمتع بحياتك, وخذ منها على قدر استطاعتك، ما هذه الفلسفة؟ هذه فلسفة الشيطان، هذه فلسفة الجهلاء، فإذا كان للإنسان فلسفة صحيحة، عنده رؤية صحيحة لحقيقة الكون والحياة والإنسان، وعنده منظومة قيم تنتظم سلوكه، ومجموعة أوامر ونواهٍ يأتمر بها وينتهي بها، فهو إذًا له هدف واضح، وله طريق سالك لهذا الهدف، وهذا الإنسان عظيم ، فقد ارتقى سلّم السعادة والتألُّق .
أيها الأخوة, أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال:
" بل نبياً عبداً, أجوع يوماً فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره ".
يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما اختار أن يكون نبياً عبداً من أجل أن يعلمنا أن نقص المواد لا قيمة له، لا قيمة له إطلاقاً، لا يسبب عقبةً تحول بينك وبين هدفك الكبير .
إذًا: " يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي " .
النبي قدوة لنا في شكر المنعم :
النبي عليه الصلاة والسلام عندما يستيقظ من الليل كان أول دعائه:
" الحمد لله الذي ردَّ إلي روحي " .
بعض الناس لا يستيقظون من نومهم، لقد عاجلهم الموت وهم نائمون, النعمة الثانية:
" وعافاني في بدني "
ثم قام يمشي، ولا مكروه به، ولا آلام، الحواس الخمسة صحيحة، مع سلامة القلب والرئتين، والكليتين، والأمعاء والعضلات، والأعصاب، البنكرياس,
" وعافاني في بدني وأذن لي بذكره ".
كان إذا دخل بيت الخلاء, يقول:
" الحمد لله الذي أذاقني لذَّته, وأبقى فيَّ قوته، وأذهب عني أذاه " .
وأقول هذا الكلام كثيراً: المهم أنّ معه مفتاحًا، سواء كان البيت صغيرًا أو كبيرًا، عاليًا أو منخفضًا، مستأجرًا أو ملكًا، كله سيّان، له مأوى, دخل إلى البيت فوجد زوجة قد طبخت، وله أولاد، يملؤون هذا البيت أنساً ومرحاً، هذه هي الحياة .
وحينما يتجاهل الإنسان هذه النعم الأساسية، ويبحث عن نعم مترفة لينافس غيره، وليظهر أمام الناس بمظهر فخم، فهذا الإنسان شقي، وهو بالأساس شقي، شَقِيَ ويشقي, قال: " يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي " .
هذا هو الغبي :
قال: " أندم الناس رجل دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار", والنبي عليه الصلاة والسلام له حديث مخيف, قال:
أهل النار وهم في النار يرون رجلاً كان له تألُّقٌ شديد في الدنيا في مجال الدعوة، تألق شديد، رأوه في النار، وقد اندلقت أمعاؤه، يقال له: أأنت فلان؟ يقول : نعم، يقال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ يقول: " كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ", وهذا الحديث فيما معناه .
وكنت أقول لكم دائماً: ما من عملٍ يتذبذب بين التفاهة وبين الخطورة كالدعوة إلى الله، فبينمــا أن يكون هذا الداعية الذي أخلص لله عزَّ وجل، وطبق أمر الله عزَّ وجل في أعلى أنواع التألق، فلو أنه كان يقول كلاماً لا يطبقه، لهبط في عين الله عزَّ وجل إلى حضيض الأوحال, " ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين، ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم " .
فنحن الذي يعنينا من هذا الدرس أنَّ الإسلام ليس فيه حل وسط، والحقيقة عندما الإنسان يقصر يصبح وضعه صعب جداً، لا هو مؤمن يقطف ثمار إيمانه، ولا هو كافر، فالله عزَّ وجل يضعه خارج العناية الإلهية، فيعطيه الدنيا كما يشاء، ثم يقصمه مرة واحدة، لا هو من هؤلاء فيقطف ثمار الإيمان، ولا هو من هؤلاء فيعطى الدنيا كما يريد, والحقيقة هناك أقوال كثيرة مشابهة لحال المنافق منها, أن أخطر شيءٍ في مضمارِ العلم نصف العالم، لا هو عالم فيفيد من علمه، ولا هو جاهل فيقبل أن يتعلم .
الإيمان ليس فيه وسط، لأنّه إذا وُجد تقصير أدّى ذلك إلى حجاب، فمثلاً: عقيدة جيدة، وطموحات إيمانية، وخوف من النار، ومع كل ذلك لديه تقصير، فهذا التقصير َسَّبَب الحجاب، وهذا الحجاب سبَّبَ مللاً، فليس مِن إنسان يمل مِن طلب العلم إلا بسبب عدم الرغبة في التطبيق .
إذا دعاك شخص إلى طعام، فوضع صحونًا وملاعق وحاجات أخرى، ولكن لم يضع طعامًا، ويقول لك: تفضل، وأنت استحيَيْت أنْ تتكلم معه، دعاك مرة أخرى فلم يضع شيئًا من الطعام، فإنْ دعاك مرة ثالثة لن تحضر, فعندما الإنسان يقوم بعبادة، يصلي ويصوم ويقرأ القرآن ، ولا يكون له اتصال بالله بسبب ذنب من الذنوب فهو في حجاب، هذا الحجاب يفرِّغ هذه العبادة من مضمونها، فعنده الصلاة صارت جوفاء، والصيام أجوف، والحج أجوف، كل هذه العبادات التي كان من الممكن أن ينهض به إلى الله، وأن ترقى به إلى الله، فبتقصيره فرَّغ العبادة من مضمونها .
هذا هو سر الإسلام :
هناك نقطة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني كي تكون واضحةً بين أيديكم، فكل واحد مسلم يمكنه أنْ يجرب الصلحَ مع الله مئة في المئة، ويستقيم مئة في المئة، ويضبط لسانه مئة في المئة، ويضبط عينه مئة في المئة، ويضبط أذنه مئة في المئة، ويضبط دخله مئة في المئة، ويضبـط إنفاقه مئـة في المئـة، ويصلي، يشعر أنه قريب من الله، وفي أي فرضٍ مِن الصلاة بإمكانه أن يتوجه إلى الله بقلبه ونفسه، ليس شرطًا أن يبكي، لكنْ حقيقةً له توجُّهٌ إلى الله عزَّ وجل ، لأن الطريق سالك بلا عقبات، وجهه أبيض، له دالةٌ على الله .
وقد كنت أضرب مثلاً، إذا لم يعمل أعمالاً صالحة، لكنه إذا استقام فقط، ففي الجيش هناك رتـب، يوجد لواء، قائد فرقة، وعميد، وعقيد، ومقدم، ورائد ونقيب، وملازم أول، وملازم ثاني، ومساعد، ورقيب، وعريف، وجندي محترف، وجندي مجند، وجندي غر، أليس كذلك؟ أيقدر مجند غر أنْ يدخل على اللواء من دون استئذان؟ مستحيل، يحتاج إلى طلب، بل إلى طلبات عن طريق التسلسل، وأعتقد أغلب الظن أنه لا يستطيع، لكن هذا اللواء لو كان له ابن، وكان يسبح في مكان عميق، وأشرف على الغرق، فهذا المجند الغر يتقن السباحة تماماً، فألقى بنفسه، وأنقذ هذا الغلام من موتٍ محقَّق، وجاء في اليوم التالي إلى غرفة هذا اللواء، وقال للحاجب قل له: فلان، ماذا يقول له هذا اللواء؟ يقول له: تفضل، أين أصبحت الرتب؟ أين العقبات؟ أين التسلسل؟ التغت كلها، لأن له عملاً صالحًا، هذا العمل بيَّض وجهه، هذا العمل أعطاه قوة اقتحام، أعطاه قوة اندفاع ، هذا مثل بسيط .
فمرة كنت في سهرة، قال لي أخ: دلَّنا على طريق الاتصال بالله، قلت له كلمتين: استقم على أمره، واخدم عباده، وقِفْ وصلّ وانظر .
مرة صليت بالحرم النبوي في أول عمرة أكرمني الله بها وراء إمام، أنا أظن به ظناً حسناً، صوته حسن، ويبدو أن له قلباً موصولاً بالله عزَّ وجل، والله أيها الأخوة، قرأ في الركعة الأولى سورة الجن، وفي الركعة الثانية سورة المزمل، والله الذي لا إله إلا هو لو أنه بقي يصلي حتى الظهر لكنـت ممتناً له، قلت هذه الكلمة: حقًّا هذه الصلاة التي أمرنا الله بها، أنت الآن تتصل بخالق الكون، فالله عنده تجليات, عنده سكينة يلقيها على قلبك، فتشعر بالطمأنينة، تشعر بالسكينة، تشعر بقيمتك كإنسان، تشعر أن علاقتك مع الله فقط، تشعر أنّ الدنيا تافهة، صارت لك صلة حميمة بالله .
هناك رجل عالم جليل من كبار الدعاة سافر إلى بلد ليجري عملية جراحية كبيرة، فقابله صحفيٌّ وسأله: ما هذه المكانة الكبيرة التي أكرمك الله بها؟ قال له: واللهِ هذه مِن الله، فلما ألح عليه، قال له: لأنني محسوبٌ على الله، أنا لستُ محسوبًا على جهة أرضية، أنا محسوب على الله ، كلمة فيها أدب، أنا لستُ أهلاً، لكن هكذا حُسِبْتُ على الله، فأنت محسوب على الله، أنت محسوب مع المصلين، محسوب مع روَّاد المساجد، محسوب مع المؤمنين، محسوب مع الذين يبتغون وجه الله، فإذا كانت لك أخطاء طفيفة، مخالفات طفيفة بالجوارح الخمس، بالسمع, بالبصر، باللسان، باليد ، بالرجل، بكسب المال، بإنفاق المال، بالبيت، بالعمل، هناك مخالفات اضبطها واتصل بالله، وهذا واللهِ الذي لا إله إلا هو لسرُّ الإسلام، فالإسلام عظمته بهذا القلب الممتلئِ بالتجلي الإلهي، بهذا القلب الممتلئِ بنور الله، بسكينة الله، بهذا القلب الذي لا يخاف ولا يذل، ولا يشعر بالقهر، ولا يشعر بالندم .
الإنسان أراه أحياناً مثل قطعة القماش البالية متهالكًا، ضعيفَ المعنويات، يائس، مقهور ، خائف، قد ينافق، أيام يتذلل، وقد يبذل ماء وجهه، أحيانا من أجل عرَضٍ طفيف جداً تجده بذل ماء وجهه، حتى هان وسقط من عين الله .
كن عزيز النفس أيها المسلم :
سيدنا عمر جاءه رجل يبدو أنه طلب طلبًا بإلحاح، فما رضي له بهذا الموقف الذليل، قال له: " يا هذا لقد أضعت من نفسك أكثر مما ضاع منك ", أضعت من مكانتك، أضعت من كرامتك، أضعت من إنسانيتك أكثر مما ضاع منك، النبي علمنا:
" ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير "
النبي الكريم علمنا، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ, قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ "
أنت تمثل هذا الدين، لماذا للسفير سيارة فخمة، ويرتدي أجمل الثياب؟ لأنه يمثل أمة، هندامه ليس ملكه، هندامه ملك أمته، مكانته طلاقة لسانه، يختارونه مثقفًا ثقافة عالية، يتقن لغتين أو ثلاثًا، يتقن عدة اختصاصات .
ينبغي على المسلم أن يحصن نفسه من المهلكات :
المؤمن لا يتألق إلا بالطاعة التامة لله عزَّ وجل، اضبط لسانك نهائيا، وابتعد عن الغيبة مهما كلَّف الأمر, أحد العلماء الأجلاء، وهو الشيخ بدر الدين الحسني، إذا حضر أحدٌ لا يتكلم أمامه كلمة ، فإنْ تكلم أحدٌ, قال فوراً: اسكت يابا، أظلم قلبي، عوِّد نفسك ألاّ تغتاب .
رجل مستقيم مقبل على الله عزَّ وجل، موفق في عمله، له حسَّاد كثيرون، هؤلاء الحساد نهشوا من لحمه، واغتابوه بحق وبغير حق، فلما قال له أحدهم: إني أشفق عليك مما يقوله عنك الناس، فقال: " هل سمعت مني عنهم شيئاً؟ قال لا، قال: إذًا عليهم فأشقق " .
فأنا الذي أرجوه من الله عزَّ وجل، والقضية سهلة، وبمتناول يدك أيها الأخ, غضُّ البصر بحزم، مع الامتناع عن سماع الغناء، والامتناعُ عن الكذب والغيبة والنميمة والسباب والفحش والاستهزاء، وأنت تعرف ذلك بالفطرة، وبعدها تصل, كسب المال الحلال مئة في المئة، لا تكذب مهما كلفك الأمر، قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾
أخواننا الكرام، ثمرات الدين يمكنك أنْ تسمِّيَها معنويات عالية، تسميها سكينة، وأنْ تصف المؤمن أنه شخص متألِّق، شخصية فذة، يمكنك أن تسمي المؤمن شخصًا متوازنًا، فالله عزَّ وجل يتجلى عليك بطريقةٍ تشعر معها أنك إنسان متميز، هذا ثمن الاستقامة .
غفلة الإنسان عن سنة الله في خلقه :
قال: " يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت من أجله إنْ سَقِمَ ظلَّ نادماً، وإن صحَّ أَمِن لاهياً ", يكره الموت لكثرة ذنوبه, اسمعوا هذا المقياس الإلهي:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾
يعني تمنِّي الموت، أو عدم الخوف من الموت محكٌّ أساسي، يكشف لك حقيقة إيمانك .
أعرف رجلاً أصيب بأزمة، أُدخِل العناية المشددة بالمستشفى، بعد أسابيع فرِّج عنه، يعني هذه الجلطة مُيِّعت، عاد إلى نشاطه, وإلى لهوه, وإلى انحرافه، وإلى نواديه الليلية، ثم بعد توفاه الله عزَّ وجل, أيْ أنّ ربنا عزَّ وجل وجَّه له إنذارًا مبَكِّرًا، في بعض القرى فيها مولدات كهربائية محدودة، تستمر حتى الثانية عشرة ليلاً، فقبل عشر دقائق يُطفَأ التيار على الناس لدقيقة واحدة، هذه إشارة أنه اقترب انقطاع التيار النهائي .
فالله عزَّ وجل جعل لنا في الحياة إنذارات عديدة, مرة الشيب، مرة بضعف البصر، فالله عزَّ وجل قادر على أن يبقيَ الإنسانَ في أعلى درجات نشاطه حتى الموت، فقبل عشر سنوات من أَجَلِه يحتاج إلى وضع نظارات، وأن يضع بدلة لأسنانه، طبعاً هذا الضعف لأعضائه أو لحواسه لَفْتُ نظرٍ لطيف مِنَ الله سبحانه، أنْ يا عبدي قد اقترب اللقاء، فهل أنت مستعد؟ هيئْ نفسك .
من طبع الإنسان اللؤم :
قال: " يعجب بنفسه إذا عُوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاءٌ دعا مضطراً، وإنْ ناله رخاءٌ أعرض مضطراً ", كل إنسان على الضغط يتوب، لكن يا ترى أنت ألاَ تحب أنْ يكون لك مع الله موقف مشرِّف، ودون مرض تدعو: يا رب، وتصلي بخشوع وإقبال، تدعو الله، وأنت لست مضطراً، النبي عليه الصلاة والسلام, يقول:
" أمرني الله بتسع, خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى "
أن تقصد الله عزَّ وجل، وأنت فقير، وأنت غني، وأنت مريض، وأنت صحيح، وأنت قوي، وأنت ضعيف، ويستوي لديك المرض مع الصحة، والغنى مع الفقر, والقوة مع الضعف في دعائك واتصالك، وأورادك وتلاوتك، وحضور مجالس العلم .
بعض الناس يشعـر بفضل الله إذا تألق عمله وتجارته، ثمّ لم نعد نراه، ويتعلّل بقوله: مشغول يا أستاذ، أعذرني، وعندما تنشأ معه مشكلة كبيرة في عمله يحضر إلى الدروس، كلما شدّد الله عليه يحضر، كلما أرخى الحبل يترك، الإنسان بطولته وهو في الرخاء, " ابن آدم اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة " .
من تبع هوى نفسه فقد ضل :
قال: " تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن "، فالموت يقيني، والأمل الطويل ظني، " تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن ", سيدنا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى له كلمة ما رأيت كلمة أكثر منطقية منها، يخاطب نفسه يقول لها وهذا كلام لنا جميعاً: " يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلةٍ تحبينها، لا شك أنك تمتنعين عنها, يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ " .
الطبيب بَشَرٌ ضعيف من جنسك، قال لك: هذه الأكلة لا تناسبك، وهذه الأكلة تسبب لك متاعب كثيرة، فأنت من خوفك على صحتك امتنعت عنها بشكلٍ حازم, أيكون الطبيب مصدّقاً, وإلهُ الكون يقول لك؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
أيكون الطبيب عندكٍ أصدق من الله؟ إذًا: ما أكفركِ ! ", ثم يقول لنفسه: " أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذًا: ما أجهلكِ! ", إنّ الله صادق، لكن المرض عنده أشدُّ إخافةً من جهنم، إذًا: ما أجهلك ! .
كل إنسان يعصي الله عزَّ وجل مدموغ إما بالكفر، وإمّا بالجهل، فهذا معنى: " تغلبه الناس على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن ".
أقوال شتى :
قال: " يخاف على غيره بأدنى من ذنبه, ويرجو لنفسه بأكثر من عمله ", تجده إذا لمح إنسانًا غلط غلطة، يقول له: الله يعينك على آخرتك، وأنت؟ يعني يرى قشةً في عين أخيه، ولا يرى جذعاً في عينه، فالقياس بالمقياسين شيء لا يليق بالإنسان .
قال: " إن استغنى بطر وفتر، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل, ويبالغ إذا سأل، سؤاله سؤال المضطرين، أما عمله عمل المغتصبين ", الحقيقة أنّ عندك قولًا وعملاً دائماً، هناك شخص قوله على قدرِ عمله، وهناك شخص قوله أكثرُ مِن عمله، هذا ثرثار، وهناك شخص عمله أبلغ من قوله، وهذا إنسان عظيم يعمل بصمت، وهناك شخص يتكلم بقدر ما يعمل، هذه بتلك، وهناك شخص يعمل ولا يتكلم، هذا إنسان عظيم، وهناك شخص عمله على قدر كلامه، هذا بين و بين .
قال: " إذا عرضت له شهوةٌ أسلف المعصية وسوَّف التوبة، وإن عرته محنةٌ انفرج عن شرائط الملة، يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظةِ ولا يتعظ، فهو بالقول مدل, ومن العمل مقل، ينافس فيما يفنى, ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرماً, والغرم مغنماً، يخشى الموت ، ولا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء ".
فهذا هو الإنسان المنافق الذي خط لنفسه طريقاً لا يرضي الله، واعتقد اعتقاداتٍ مشابهةً للمؤمنين، فهذا النموذج الذي وصفه هذا الإمام الجليل نرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون في حرزٍ حريز من هذه الأوصاف التي لا ترقى بالإنسان .
من هؤلاء الذين يصفهم الإمام بالهمج الرعاع ؟
قال: " إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها, فيا كميل احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة, عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع ", يعني هناك أناس مع الغوغاء، هؤلاء يسمونهم الشريط العريض في المجتمع، هؤلاء يتبعون شهواتهم، ويتبعون صرعات الأزياء، يتحدثون فيما لا يعنيهم، هم مع الناس إنْ أحسن الناس أحسنوا، إنْ أساؤوا أساؤوا مثلهم، هؤلاء يتموجون، هؤلاء هم الهمج الرعاع، وهناك عالمٌ رباني, أي متصلٌ بالله عزَّ وجل، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، اللهم اجعلنا من المتعلمين على سبيل النجاة .
قال: " هؤلاء الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم، يا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله ", الحقيقة العلم حارس، والمال يحتاج إلى حراس، العلم نفسه يحرسك .
عاقبة المفرط :
ذات مرة سائق تكسي في دمشق، استوقفته امرأة ترتدي عباءة فلما ركبت، قال: إلى أين يا أختي؟ قالت له: خذني إلى حيث تشاء، وناولته ظرفاً فيه مبلغ كبير من العملات الصعبة، فهذا السائق، بحسب جهله الكبير، قال في نفسه: رأينا ليلة القدر، قضى حاجته، وأخذ هذا المبلغ، وأرجعها إلى المكانِ الذي أخذها منه، ومع هذا المبلغ رسالة، فضَّ الرسالة، فإذا فيها كلمة، تقول له: لقد أصبحت عضواً في نادي الإيدز .
وأنا بلغني أنّ النساء اللواتي يصبن بهذا المرض عندهن رغبةٌ جامحةٌ جداً أن يوسِّعن دائرة هذا المرض بشكلٍ مخيف، هذا أسقط في يده، لكن قال هذا المبلغ كبير ينفعنا، فلما ذهب ليصرف المبلغ فإذا هو مزور، وأخذ إلى السجن, هذه الحادثة وقعت في دمشق قبل سنة تقريباً، وتعليقي على هذه القصة، لو أن هذا السائق كان مؤمنًا لوضع رجله في ظهرها، وركلها خارج السيارة، أليس كذلك؟ ونجا من المرض، ومن السجن، لأن العلم حرسه .
مرة أحد الأشخاص سألني وهو يبكي، قال لي: زوجتي تخونني منذ ثلاث سنين، وقال: الأمس اكتشفت ذلك، هو في عمله طيلة النهار, يأتي مساءً يتناول طعام العشاء، ويشرب كأساً من الشاي، وينام نوماً عميقاً، بعد ثلاث سنوات، خطر في باله أن هذا الكأس ينبغي ألاّ يشربه، وبقي صاحيًا، إذًا: هناك رجل يأتي إلى البيت بعد أن ينام الزوجُ نوماً عميقاً، فسألتُه: مَن هذا الرجل؟ قال: جارنا في البناية، كيف تعرفتَ عليه؟ قال لي: ذات ليلة كنت سهران، وطرق بابَنا ليزورنا، وقلت لزوجتي: تعاليْ أمَّ فلان، اجلسي معنا، هذا مثل أخوكِ, وكانت هذه بداية الخيانة، قلت له: لو أنك حضرت مجلس علمٍ، وعرفت أنّ هذا الاختلاط لا يجوز، وأنك كنت السبب لَما فعلت هذا ، قال لي: كلامك حقٌّ وصواب .
قيمة العلم الشرعي في ضمان حياة البشر :
أيها الأخوة، ما مِن مشكلةٍ على وجه الأرض، إلا ووراءها معصية لله، وما من معصيةٍ إلا وراءها جهلٌ بشرع الله, فالذي يحضر دروس العلم, فما حصيلة ذلك؟ هذا يحصِّن نفسه، لأن هناك قوانين دقيقة جداً، فعندما يسمح رجلٌ لزوجته أنْ تختلط مع جاره فلا بد أنْ يدفع الثمن غاليًا
ببساطة, أعرابي وهو سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ,
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلا لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ, قَالَ: " قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " .
يقول لك: أخي لا تتزمت كثيرًا، حلها برمة، فيمكن أنْ يقول لمهندس العمار: أخي لا تشدد علي كثيرًا، بدلَ قياس ثمانية مليمتر اجعل ستة مليمتر، ويكفي كيسان فقط، هذا كلام غير مسموع، هنا علم، هذا بناء مِن ثلاثة طوابق، لو وضعنا كيسين إسمنت تقع البناية، لو كان الحديد أقل ممَّا ينبغي ينهار البناء، ففي الهندسة ليس ثمة مجاملة، فكل إنسان يقول لك: حلها برمة، لا تشدد, لا تتزمت, هذا كلامه غير مسموع .
أحد الطلاب أخبرني مرة، فقال: لي أخ يعمل في معمل ثماني ساعات، وعنده ثلاثة أولاد, ولدٌ منه، وولد مني، وولدٌ من أخي الآخر, قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
" الحمو الموت " .
هكذا النبي أخبر، فلو أخذت ملفات القضاة، لو أخذت ملفات مخافر الشرطة، ودرست كل قضية، فببساطة وسهولة أنْ تجد كل مشكلة وراءها معصية, فلما يحضر الإنسان مجلس علم، ويعرف الحرام والحلال، وما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز، لا توجد عنه هذه المشكلات, فبشكل دقيق جداً، مشكلاتنا الأسرية والاجتماعية والتجارية والمالية أساسها المعاصي، والمعاصي أساسها الجهل دائمًا .
فالذي يريد الحياةَ هادئة ليس فيها مطبّات، وليس فيها انحرافات، وليس فيها انفجار داخلي، ولا أزمات ساحقة، فعليه أنْ يستقيم على أمر الله عزَّ وجل, قال له: " يا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال" .
المشكلة أن الإنسان يتحرك من دون علم، وإذا تحرك من دون علم قطعاً سوف يأخذ ما ليس له، وسيقع في الكذب, والغش، والربا، والغبن، حينما يقع في هذه المعاصي يؤدِّبه الله تعالى ، أما لو تعلَّم، وطبّق المنهج يكرمه الله، والمال ينمو بالصدقات، ويتلف بالربا .
في أحداث لبنان، حدثني أخ في محل بالبرج، أضخم محل أجبان، فيه بضائع بمبالغ خيالية، فأول جولة حرب انتهت، المحل الذي على يمينه محروق ومنهوب، والذي على يساره محروق ومنهوب، والذي فوقه محروق ومنهوب، والغلق محروق، فلما انفرج الأمر، هذا أسرع إلى دكانه وفتح المحل، هذا رجل مسلم، يدفع زكاة ماله، أقسم بالله وجده كما أغلقه قبل أشهر هو هو، فتح الصندوق، هناك مبلغ من المال وجده هو هو، فحينما دفع زكاة ماله ما بقي أحدٌ من جيرانه إلا اتهمه بالغباء، قالوا له: ادفع هذا المبلغ للمصرف وخذ فائدته، لكنه دفعه زكاة ماله، إذًا: تأكَّدْ يا أخي أنه ما تلف مالٌ في برٍ أو بحر إلا بحبس الزكاة .
فأنا أرى أن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بالقوة الإدراكية، وهي العقل، هذه القوة الإدراكية تحتاج إلى أن تلبي هذه الحاجة، فكل إنسان يطلب العلم، معناها أكَّد إنسانيته، أكد في كيانه إنسانيته، وكل إنسان أهمل العلم هبط إلى مستوى آخر دون المستوى الحقيقي, " فيا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال, والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق " .
العالم ذكره لا يموت :
إذا سمع أحدُكم تفسيرَ آية، أو تفسيرَ حديث، أو نقطة شرعية دقيقة وحفظها، فليحاولْ في مناسبة ما أنْ ينقلها للأخوان، إن تكلمت بها مرةً واحدة ثبتت، أو مرتين، أو ثلاثًا، بإمكانك أن تنفقها آلاف المرات، وكلما أنفقتها ازداد امتلاكك إياها، وربما تعمَّقت في فهمها، فالعلم يزكو على الإنفاق, " يا كميل هلك خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، العلماء باقون أعيانهم مفقودة, وأمثالهم في القلوب موجودة " .
الإنسان يموت، لكن واللهِ أيها الأخوة مَن يطلب العلم، ويعلِّم بإخلاص لا يموت، يموت جسمه، لكنّ ذِكْرَه على كل لسان، واسمه في كل بيت، وهذا بين أيديكم, العالم الإسلامي من شرقه إلى مغربه، كم مرة يسمع ذكر الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وسيدنا الصديق، وسيدنا عمر ، وسيدنا صلاح الدين، وسيدنا عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء الذين أَعطَوا ولم يأخذوا، هؤلاء لم يموتوا, " يا كميل هلك خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " .
اسمعوا هذه الكلمة :
قال: " لو أصبتُ لهذا العلم لا أصيب إلا حملةً، أصبت لقناً غير مأمونٍ عليه، مستعملاً آلةَ الدين للدنيا ", فأصعب شيء في الحياة أن الإنسان يستخدم الدين للارتزاق, " أو قائدًا لحملة الحق، ولا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لأول عارضٍ من شبهةٍ لا إلى ذاك ولا إلى ذاك، أو منهوماً باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيءٍ شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لا تَخْلُو الأرض من قائمٍ بحجة الله، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا, وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عدداً, والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته، حتى يودعوها نظرائهم, ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة, وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استخشنه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلقةٌ بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه شوقاً إلى رؤيتهم ", وهذه الكلمة لهذا الإمام الجليل، تبين المزالق التي يمكن أن ينزلق بها مَن ينتمون إلى هذا العلم، وتبين حقائق الدعاة إلى الله الصادقين .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعا بما علمنا, وأن يلهمنا تعليم الناس الخير .